الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم
.قال أبو حيان: {وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَآَمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا}قيل: نزلت في أبي طالب، لأنه صلى الله عليه وسلم أسف بموته على ملة عبد المطلب وكان حريصًا على إيمانه.ولما كان أحرص الناس على هدايتهم وأسعى في وصول الخير إليهم والفوز بالإيمان منهم وأكثر اجتهادًا في نجاة العالمين من العذاب، أخبره تعالى أنه خلق أهلًا للسعادة وأهلًا للشقاوة، وأنه لو أراد إيمانهم كلهم لفعل، وأنه لا قدرة لأحد على التصرف في أحد.والمقصود بيان أنّ القدرة القاهرة والمشيئة النافذة ليست إلا له تعالى.وتقديم الاسم في الاستفهام على الفعل يدل على إمكان حصول الفعل، لكن من غير ذلك الاسم فللَّه تعالى أن يكره الناس على الإيمان لو شاء، وليس ذلك لغيره.وقال الزمخشري: ولو شاء ربك مشيئة القسر وإلالجاء لآمن من في الأرض كلهم على وجه الإحاطة والشمول جميعًا، مجتمعين على الإيمان، مطبقين عليه، لا يختلفون ألا ترى إلى قوله تعالى: {أفأنت تكره الناس} يعني إنما يقدر على إكراههم واضطرارهم على الإيمان هؤلاء أنت.وإتلاء الاسم حرف الاستفهام للإعلام بأنّ الإكراه ممكن مقدور عليه، وإنما الشان في المكره من هو، وما هو إلا هو وحده ولا يشارك فيه، لأنه تعالى هو القادر على أن يفعل في قلوبهم ما يضطرون عنده إلى الإيمان، وذلك غير مستطاع للبشير انتهى.وقوله: مشيئة القسر والإلجاء هو مذهب المعتزلة.وقال ابن عطية: المعنى أنّ هذا الذي تقدم ذكره إنما كان جميعه بقضاء الله عليهم ومشيئته فيهم، ولو شاء الله لكان الجميع مؤمنًا، فلا تتأسف أنت يا محمد على كفر من لم يؤمن بك، وادع ولا عليك، فالأمر محتوم.أتريد أنت أن تكره الناس بإدخال الإيمان في قلوبهم، وتضطرهم إلى ذلك والله عز وجل قد شاء غيره؟ فهذا التأويل الآية عليه محكمة أي: ادع وقاتل من خالفك، وإيمان من آمن مصروف إلى المشيئة.وقالت فرقة: المعنى أفأنت تكره الناس بالقتال حتى يدخلوا في الإيمان؟ وزعمت أن هذه الآية في صدر الإسلام، وأنها منسوخة بآية السيف، والآية على كلا التأويلين رادة على المعتزلة انتهى.ولذلك ذهب الزمخشري إلى تفسير المشيئة بمشيئة القسر والإلجاء، وهو تفسير الجبائي والقاضي.ومعنى إلا بإذن الله.أي بإرادته وتقديره لذلك والتمكن منه.وقال الزمخشري: بتسهيله وهو منح الإلطاف.ويجعل الرجس: وهو الخذلان على الذين لا يعقلون، وهم المصرون على الكفر.وسمى الخذلان رجسًا وهو العذاب، لأنه سببه انتهى.وهو على طريق الاعتزال.وقال ابن عباس: الرجس السخط، وعنه الإثم والعذوان.وقال مجاهد: ما لا خير فيه.وقال الحسن، وأبو عبيدة، والزجاج: العذاب.وقال الفراء: العذاب والغضب.وقال الحسن أيضًا: الكفر.وقال قتادة: الشيطان، وقد تقدّم تفسيره، ولكن نقلنا ما قاله العلماء هنا.وقرأ أبو بكر، وزيد بن علي: ونجعل بالنون، وقرأ الأعمش: ويجعل الله الرجز بالزاي. اهـ..قال أبو السعود: {وَلَوْ شَاء رَبُّكَ لآمَنَ مَن في الأرض}تحقيقٌ لدروان إيمانِ كافةِ المكلفين وجودًا وعدمًا على قُطب مشيئتِه تعالى مطلقًا إثرَ بيانِ تبعيةِ كفرِ الكفرةِ لكلمته ومفعولُ المشيئة محذوفٌ لوجود ما يقتضيه من وقوعها شرطًا وكونِ مفعولها مضمونَ الجزاء وأن لا يكونَ في تعلقها به غرابةٌ كما هو المشهورُ أي لو شاء سبحانه إيمانَ من في الأرض من الثقلين لآمن: {كُلُّهُمْ} بحيث لا يشِذّ عنهم أحد: {جَمِيعًا} مجتمعين على الإيمان لا يختلفون فيه لكنه لا يشاؤه لكونه مخالفًا للحِكمة التي عليها بُنيَ أساسُ التكوين والتشريع وفيه دِلالةٌ على أنه من شاء الله إيمانَه يؤمن لا محالة: {أَفَأَنتَ تُكْرِهُ الناس} على ما لم يشأ الله منهم حسبما ينبئ عنه حرفُ الامتناعِ في الشرطية والفاء للعطف على مقدر ينسحب عليه الكلام كأنه قيل: أربُّك لا يشاء ذلك فأنت تُكرههم: {حتى يَكُونُواْ مُؤْمِنِينَ} فيكون الإنكارُ متوجهًا إلى ترتيب الإكراهِ المذكورِ على عدم مشيئته تعالى ويجوز أن تكون الفاء لترتيب الإنكارِ على عدم مشيئته تعالى بناء على أن الهمزة متأخرة في الاعتبار وإنما قدمت لاقتضائها الصدارة كما هو رأيُ الجمهورِ وأيًا ما كان فالمشيئةُ على إطلاقها إذ لا فائدةَ بل لا وجهَ لاعتبار عدمِ مشيئة الإلجاءِ خاصة في إنكار الترتيبِ عليه أو ترتيب الإنكارِ عليه وفي إيلاء الاسم حرف الاستفهام إيذان بأن الإكراهَ أمرٌ ممكنٌ لكن الشأنَ في المكرَه مَنْ هو وما هو إلا هو وحده لا يشارك فيه لأنه القادرُ على أن يفعل في قلوبهم ما يضطرهم إلى الإيمان وذلك غيرُ مستطاعٍ للبشر وفيه إيذانٌ باعتبار الإلجاءِ في المشيئة كما أشير إليه: {وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ} بيانٌ لتبعية إيمانِ النفوس المؤمنةِ لمشيئته تعالى وجودًا بعد بيانِ الدوران الكليِّ عليها وجودًا وعدمًا أي ما صح وما استقام لنفس من النفوس التي علم الله تعالى أنها تؤمنُ: {أَن تُؤْمِنَ إِلاَّ بِإِذْنِ الله} أي بتسهيله ومنحِه للألطاف وإنما خُصت النفسُ بمن ذُكر ولم يُجعل من قبيل قولِه تعالى: {وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلاَّ بِإِذْنِ الله} لأن الاستثناءَ مفرَّغٌ من أعم الأحوال أي ما كان لنفس أن تؤمن في حال من أحوالها إلا حالَ كونِها ملابسةً بإذنه تعالى فلابد من كون الإيمانِ مما يؤول إليه حالُها كما أن الموتَ مآلٌ لكل نفس بحيث لا محيصَ لها عنه فلابد من تخصيص النفسِ بمن ذكر فإن النفوسَ التي علم الله أنها لا تؤمنُ ليس لها حالٌ تؤمن فيها حتى يستثنى تلك الحال من غيرها: {وَيَجْعَلُ الرجس} أي الكفر بقرينة ما قبله عبر عنه بالرجس الذي هو عبارةٌ عن القبيح المستقذَر المستكرَه لكونه علمًا في القبح والاستكراه وقيل: هو العذاب أو الخِذلان المؤدي إليه وقرئ بنون العظمة وقرئ بالزاي أي يجعل الكفرَ ويبقيه: {عَلَى الذين لاَ يَعْقِلُونَ} لا يستعملون عقولهم بالنظر في الحجج والآيات أو لا يعقلون دلائله وأحكامه لما على قلوبهم من الطبع فلا يحصُل لهم الهدايةُ التي عبّر عنها بالإذن فيبقَون مغمورين بقبائح الكفرِ والضلال أو مقهورين بالعذاب والنَّكال والجملةُ معطوفةٌ على مقدر ينسحب عليه النظمُ الكريم كأنه قيل: فيأذن لهم بمنح الألطافِ ويجعل إلخ. اهـ..قال الألوسي: {وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَآَمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ} تحقيق لدوران إيمان جميع المكلفين وجودًا وعدمًا على قطب مشيئته سبحانه مطلقًا بعد بيان تبعية كفر الكفرة لكلمته، ومفعول المشيئة هنا محذوف حسب المعهود في نظائره أي لو شاء سبحانه إيمان من في الأرض من الثقلين لآمن: {كُلُّهُمْ} بحيث لا يشذ منهم أحد: {جَمِيعًا} أي مجتمعين على الإيمان لا يختلفون فيه لكنه لم يشأ ذلك لأنه سبحانه لا يشاء إلا ما يعلم ولا يعلم إلا ما له ثبوت في نفسه فيما لا ثبوت له أصلًا لا يعلم وما لا يعلم لا يشاء، وإلى هذا التعليل ذهب الكوراني عليه الرحمة وأطال الكلام في تحريره والذب عنه في غير ما رسالة، والجمهور على أنه سبحانه لا يشاؤه لكونه مخالفًا للحكمة التي عليها بناء أساس التكوين والتشريع.والآية حجة على المعتزلة الزاعمين أن الله تعالى شاء الإيمان من جميع الخلق فلم يؤمن إلا بعضهم، والمشيئة عندهم قسمان تفويضية يجوز تخلف الشيء عنها وقسرية لا يجوز التخلف عنها وحملوا ما في الآية على هذا الأخير، فالمعنى عندهم لو شاء ربك مشيئة الجاء وقسر إيمان الثقلين لآمنوا لكنه سبحانه لم يشأ كذلك بل أمرهم بالإيمان وخلق لهم اختيارًا له ولضده وفوض الأمر إليهم فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر وهذا ديدنهم في كل ما ورد عليهم من الآيات الظاهرة في إبطال ما هم عليه، وفيه أنه لا قرينة على التقييد مع أن قوله سبحانه: {أَفَأَنتَ تُكْرِهُ الناس} يأباه فيماق يل، فإن الهمزة للإنكار وهي لصدارتها مقدمة من تأخير على ما عليه الجمهور والفاء للتفريع والمقصود تفرع الإنكار على ما قبل ولا فائدة بل لا وجه لاعتبار مشيئة القسر والإلجاء خاصة في تفرع الإنكار، وقيل: إن الهمزة في موضعها والعطف على مقدر ينسحب عليه الكلام كأنه قيل: أربك لا يشاء ذلك فأنت تكرهه: {حتى يَكُونُواْ مُؤْمِنِينَ} والإنكار متوجه إلى ترتيب الإكراه المذكور على عدم مشيئته تعالى والإباء هو الإباء فلابد من حمل المشيئة على إطلاقها، والمراد بالناس من طبع عليهم أو الجميع مبالغة، وجوز في: {أَنتَ} أن يكون فاعلًا بمقدر يفسره ما بعده وأن يكون مبتدأ خبره الجملة بعده ويعدونه فاعلًا معنويًا، وتقديمه لتقوية حكم الإنكار كما ذهب إليه الشريف قدس سره في شرح المفتاح وذكر فيه أن المقصود إنكار صدور الفعل من المخاطب لا إنكار كونه هو الفاعل مع تقرر أصل الفعل، وقيل: إن التقديم للتخصيص ففيه إيذان بأن الإكراه أمر ممكن لكن الشأن في المكره من هو وما هو إلا سبحانه وحده لا يشارك فيه لأنه جل شأنه القادر على أن يفعل في قلوبهم ما يضطرهم إلى الإيمان وذلك غير مستطاع للبشر.{وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ} بيان لتبعية إيمان النفوس التي علم الله تعالى إيمانها لمشيئته تعالى وجودًا وعدمًا بعد بيان الدوران الكلي عليها كذلك، وقيل: هو تقرير لما يدل عليه الكلام السابق من أن خلاف المشيئة مستحيل أي ما صح وما استقام لنفس من النفوس التي علم الله تعالى أنها تؤمن: {أَن تُؤْمِنَ إِلاَّ بِإِذْنِ الله} أي بمشيئته وإرادته سبحانه، والأصل في الإذن بالشيء الإعلام بإجازته والرخصة فيه ورفع الحجر عنه، وجعلوا ما ذكر من لوازمه كالتسهيل الذي ذكره بعضهم في تفسيره، وخصصت النفس بالصفة المذكورة ولم تجعل من قبيل قوله تعالى: {وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلاَّ بِإِذْنِ الله} [آل عمران: 145] قيل لأن الاستثناء مفرغ من أعم الأحوال أي ما كان لنفس أن تؤمن في حال من أحوالها إلا حال كونها ملابسة بإذنه سبحانه فلابد من كون الإيمان مما يؤول إليه حالها كما أن الموت حال لكل نفس لا محيص لها عنه فلابد من التخصيص بما ذكر، فإن النفوس التي علم الله تعالى أنها لا تؤمن ليس لها حال تؤمن فيها حتى تستثني تلك الحال من غيرها انتهى، وقد يقال: إن هذا الاستثناء بالنظر إلى النفس التي علم الله تعالى أنها لا تؤمن مفيد لعدم إيمانها على أتم وجه على حد ما قيل في قوله تعالى: {وَأَن تَجْمَعُواْ بَيْنَ الاختين إَلاَّ مَا قَدْ سَلَفَ} [النساء: 23] فكأنه قيل: ما كان لنفس علم الله تعالى أنها لا تؤمن أن تؤمن في حال من الأحوال كسلامة العقل وصحة البدن وغيرهما إلا في حال ملابستها إذن الله تعالى وإرادته أن تؤمن وهي تابعة لعلمه بذلك وعلمه به محال لأنه قد علم نقيضه فيلزم انقلاب العلم جهلًا فتكون إرادته ذلك محالًا فيكون إيمانها محالًا إذ الموقوف على المحال محال.وفي الحواشي الشهابية أن: {مَا كَانَ} إن كان بمعنى ما وجد احتاج إلى تقييد النفس بمن علم أنها تؤمن وإن كان بمعنى ما صح لا يحتاج إليه ولذا ذكره من ذكره وتركه من تركه وفيه خفاء فتأمل: {وَيَجْعَلُ الرجس} أي الكفر كما في قوله تعالى: {فَزَادَتْهُمْ رِجْسًا إلى رِجْسِهِمْ} [التوبة: 125] بقرينة ما قبله، وأصله الشيء الفاسد المستقذر وعبر عنه بذلك لكونه علمًا في الفساد والاستقذار، وقيل: المراد به العذاب وعبر عنه بذلك لاشتراكهما في الاستكراه والتنفر، وأن إرادة الكفر منه باعتبار أنه نقل أولًا عن المستقذر إلى العذاب للاشتراك فيما ذكر ثم أطلق على الكفر لأنه سببه فيكون مجازًا في المرتبة الثانية، واختار الإمام التفسير الأول تحاشيًا مما في إطلاق المستقذر على عذاب الله تعالى من الاستقذار وبعض الثاني لما أن كلمة: {على} في قوله تعالى: {عَلَى الذين لاَ يَعْقِلُونَ} أي لا يستعملون عقولهم بالنظر في الحجج والآيات أو لا يعقلون دلائله وأحكامه لما على قلوبهم من الطبع تأبى الأول.وتعقب بأن المعنى يقدره عليهم فلا إباء، ويفسر: {الذين لاَ يَعْقِلُونَ} بما يكون به تأسيسًا كما سمعت في تفسيره، ومنه تعلم أن الفعل منزل منزلة اللازم أوله مفعول مقدر، وقد يفرق بين التفسيرين بأنهم على الأول لم يسلبوا قوة النظر لكنهم لم يوفقوا لذلك وعلى الثاني بخلافه والأمر الآتي ظاهر في الأول، والجملة معطوفة على مقدر كأنه قيل: فيأذن لهم بالإيمان ويجعل إلخ أو فيأذن لبعضهم بذلك ويجعل إلخ.وقرئ: {الرجز} بالزاي؛ وقرأ حماد ويحيى عن أبي بكر: {وَنَجْعَلُ} بالنون. اهـ..قال ابن عاشور: {وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَآَمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا} عطف على جملة: {إن الذين حقت عليهم كلمات ربك لا يؤمنون} [يونس: 97] لتسلية النبي صلى الله عليه وسلم على ما لقيه من قومه.وهذا تذييل لما تقدم من مشابهة حال قريش مع النبي صلى الله عليه وسلم بحال قوم نوح وقوم موسى وقوم يونس.وهذه الجملة كالمقدمة الكلية للجملة التي بعدها، وهي جملة: {أفأنت تكره} المفرعة على الجملة الأولى، وهي المقصود من التسلية.والناس: العرب، أو أهل مكة منهم، وذلك إيماء إلى أنهم المقصود من سوق القصص الماضية كما بيّنّاه عند قوله تعالى: {واتل عليهم نبأ نوح} [يونس: 71].والتأكيد بـ: {كلهم} للتنصيص على العموم المستفاد من (مَن) الموصولة فإنها للعموم، والتأكيد بـ: {جميعًا} لزيادة رفع احتمال العموم العرفي دون الحقيقي.
|